أنباء
الجامعة
كلمة
التحية والترحيب
بفضيلة
الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم/حفظه الله
إمام
وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة
بمناسبة
زيارته للجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند، الهند
يوم
الأحد 10/ربيع الثاني 1433هـ الموافق 4/ مارس 2012م
تقديم: فضيلة
الشيخ المفتي أبوالقاسم النعماني/حفظه الله
رئيس الجامعة الإسلامية دار العلوم / ديوبند ،
الهند
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب السماوات وربّ الأرض رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن
عبد الله خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين.
وبعد:
فنحمد
الله عز وجلّ ونشكره سبحانه وتعالى على أن مَنَّ علينا –
نحن جميعَ مسؤولي هذه الجامعة العريقة وأساتذتها ومنسوبيها وطلابها – بهذه الفرصة الغالية المباركة، التي
نسعد فيها بالاجتماع بالعالم المخلص الداعية الكبير فضيلة الشيخ الدكتور سُعُود بن
إبراهيم الشُّرَيْم/ حفظه الله وأطال عمره مع الصحة الموفورة والعافية المذخورة
إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة، في رحاب أكبر وأعرق الجامعات الإسلامية
الأهلية في شبه القارة الهندية المعروفة في العالم بـ«دارالعلوم/ ديوبند».
إنّ
الجامعة، لشعبيتها الفريدة ومحبوبيتها العجيبة، استقبلت ولاتزال آلافاً من كبار
الضيوف والزوّار؛ ولكن الضيف العظيم، القادم من رحاب البيت العتيق، وشعاب مكة
البلد الأمين، الذي ظلنا نسمع تلاواته العذبة الحانية، المُشَنِّفَة لآذان
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يحتل من قلوبنا المكانةَ التي لاتقدر ألسنتُنا
عن الإفصاح عن سموّها والتعبير عن عظمتها؛ لأنها ذات دلالات لطيفة وإشارات بارعة.
ضيفَنا العظيم!
الجامعةُ ترفل اليوم بكل معاني الكلمة في حلل البهجة والسرور؛ لأنّها تقر عيناً
بالترحيب بشخصيتكم الكريمة، الحظيّة بشرف الإمامة والخطابة بالمسجد الحرام، التي
تنتمي إلى أقدس البقاع التي تمّ فيها آخر اتصالٍ بين السماء والأرض، والتي هي مهد
العروبة والإسلام، ومهبط الوحي والقرآن، ومولد ومبعث النبي الأعظم سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم ؛ فهي مهوى أفئدة المسلمين في العالم، ومحطّ أنظارهم، وموضع
حنينهم، وموطن روحهم، ومأوى آمالهم. كما تتشرف هي –
الشخصية –
بتمثيل قيادتها الرشيدة وحكومتها الكريمة: حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد
الله بن عبد العزيز –
مدّ الله في عمره مع كامل الصحة والعافية –
التي تعتمد على الشريعة الإسلامية، وتهتم بخدمة الحرمين الشريفين المنقطعة النظير،
وتضع إمكانياتها كافة في خدمة ضيوف الرحمن، وتُعْنَىٰ بمصالح الإسلام
والمسلمين في أرجاء المعمورة.
فنشكركم
–
أيها الضيف الكبير –
أعمقَ الشكر وأجزلَه، ونُرَحِّب بكم من أعماق قلوبنا، ونستقبلكم بكل معاني الأخوة
الإسلامية، وعواطف التقدير والإعزاز الجيّاشة، والاحترام البالغ، مع شعورنا بأنّ جميع
معاني الحفاوة ستظلّ قاصرةً عن الارتقاء إلى المستوى الذي يليق بكم.
ضيفنا المبجل!
لقد زار الجامعة كثير من العلماء والمفكرين العرب، كما زارها عدد كبير من علماء
ومشايخ ومُثَقَّفِي المملكة السعودية قديماً وحديثاً. وقد زارها من أئمة الحرم
المكي منذ سنوات فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله السُّبَيِّل – حفظه الله – رئيس شؤون الحرمين
وإمام وخطيب المسجد الحرام سابقاً، ومعالي الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي
أمين عام رابطة العالم الإسلامية بمكة المكرمة. وذلك عندما كان مديرًا لجامعة
الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. ومن قبله زارها معالي الدكتور عبد الله
عمر نصيف، عندما كان أمين عام رابطة العالم الإسلامي.
ضيفنا الكريم!
إن هذه الجامعة التي تسقبلكم في رحاجها كانت تجربةً ناجحةً كلَّ النجاح، فريدةً
كلَّ الانفراد، مُمْتِعَةً غايةَ الإمتاع، في الحفاظ على الكيان الإسلامي في هذه
القارة، وعلى الثقافة الإسلامية، وعلى الإسلام بأصالته وصورته المشرقة الوضَّاءة،
حالت في هذه الديار دون تكرار ما حدث للإسلام والمسلمين في الأندلس: الفردوس
الإسلامي الذي فقدناه بعد أن حكمناه طويلاً. وبالمناسبة نود أن نوجز بغاية من
الإيجاز قصةَ هذه التجربة وخلفيّةَ تأسيس هذه الجامعة:
إن
الإسلام دخل إلى الديار الهندية في عصوره الأولى عن طريق المجاهدين الغزاة،
والتجار الدعاة، والدعاة المحتسبين، والعلماء المخلصين، الذين حملوا إليها العلمَ
والدينَ والرسالةَ الإسلاميةَ، وتوارث منهم ذلك آخرون، فتعاقب الملوك والسلاطين
المؤمنون، والأباطرة المسلمون، الذين حكموها نحو ألف سنة، وطَرَّزُوا حواشيَها
بالمكرمات والبطولات، وأناروا دياجيرَها بنور لا إله إلاّ الله، وهذّبوا ربوعَها
بالحضارة الإسلامية الراقية، وعمروها بالثقافة الإسلامية، وأنشأوا فيها مساجدَ
ومعاهدَ ومدارسَ ومراكزَ التثقيف الإسلامـي بعـدد لايـُحْـصَىٰ، كانت مراكز
إشعاع الإسلامي في جانب، وآيةً يتيمةً في فن الهندسة الإسلامية، والبناء
الإسلاميِّ الطراز في جانب آخر، وحَوَّلوا البلاد كلَّها مثالاً في الرفاهية
والرخاء، والأمن والاستقرار، والتسامح الإسلامي، والتعايش السلمي بين أبناء ديانات
شتى ظلت تموج بها هذه القارةُ منذ القدم. وكان المسلمون على عهد الحكم الإسلامي
آمنين على دينهم وعقيدتهم، وثقافتهم وتقاليدهم؛ لأن الملوك المسلمين كانوا يتكفلون
مدارس الدين، ومعاهدَ التعليم، أو يُقْطِعُون لها من الإقطاعات ما يفي بتغطية جميع
حاجاتها وتأمين مسيرتها.
ثم
دخل إلى الهند –
كما دخل إلى بلاد أخرى –
الاستعمارُ الإنجليزيّ مُتَظَاهِرًا بممارسة التجارة، مُتَسَتِّرًا بالتبادل
التجاري، مُخْفياً النوايا الاستعماريّةَ التَوَسُّعِيَّة الرهيبةَ البعيدةَ
المدى. وكان –
طبعاً –
مدفوعاً بالروح الصليبية وعاطفة التشفّي من المسلمين في هذه القارة؛ حيث نَشَرَ
شبكةَ التبشير المسيحي، بعد ما بَسَطَ سيطرتَه على بلاد الهند.
ومع
الأيّام صار قوةً لا تُدَافَع؛ لأنه كان يجلب إلى الهند أسلحةً وعتاداً ورجالاً
وخبراء عسكريين مع السلع التجارية، فصار يتدخل في شؤون البلاد، ويحاصر الدولة
المغولية المسلمة، ويُبَيِّت المؤامراةَ لإضعافها فإسقاطها. وفعلاً استولى على عدد
من نواحي الهند، وحَوَّل الدولةَ المغوليةَ مُتَأَكِّلةً من الداخل، ومَلِكَها
وقادتَها مَلِكاً وقادةً بالاسم فقط، حتى حدثت ثورة عام 1857م (ألف وثماني مئة
وسبعة وخمسين من الميلاد) الشهيرة التي كانت في الواقع انتفاضةً شاملةً كبرى ضدّ
الاستعمار الإنجليزي من قِبَل الشعب الهندي؛ ولكنها فشلت لأسباب يطول ذكرُها،
فاستولى على البلاد كلها، وانتهت الدولة المغولية المسلمة عن آخرها، فوضع في
المسلمين السيفَ، وامتلأت البلاد بجُثَث القتلى والجرحى، واستهدف بغضبه خصيصاً
العلماءَ ورجال الفكر والدعوة، فقَتَّلَهم تقتيلاً، وأعدمهم شنقاً، وشَرَّدَ من
بقي منهم، ونفاهم إلى جزيرة «إندومان» لأن المسلمين هم الذين كانوا أصحاب الحكم
والسلطة في البلاد. وأغلق الاستعمار مدارسهم، وجَفَّف منابع تفكيرهم وتثقيفهم
وتوجيههم، وصادر أوقافهم، وهدم ما كان عندهم من دُور العلم، ونهب البلادَ وجميعَ
مُقَوِّمَات الحياة فيها، وشحنها إلى بلاده «بريطانيا»؛ لأنه كان يتبنّى من وراء
استعمار البلاد الإسلامية –
بما فيها الهند – هدفين
رئيسين:
(الف)
نهب ثروات البلاد المُسْتَعْمَرة لصالح دولته بريطانيا.
(ب)
التشفّى من المسلمين وإشباع روحه الصليبية، وذلك عن طريقين:
1
–
عن طريق تنصيرهم وتبشيرهم بالدين المسيحي بالترغيب والترهيب معاً.
2
–
عن طريق تجفيف منابع تعليمهم ونشر التعليم الإنجليزي الغربي الذي يُغَرِّبُهم ويُنَصِّرُهم،
ويصرفهم عن دينهم.
وقد
أعلن أحد النُّوَّاب البريطانيين صارخاً في البرلمان البريطاني عام 1857م (عام ألف
وثماني مئة وسبعة وخمسين من الميلاد) بعدما استولى الاستعمار البريطاني على بلاد
الهند كلها:
«إن
الربّ أكرمنا بسعادة استعمار الهند، حتى نجعل رايةَ سيدنا المسيح خفّاقةً في الهند
من أقصاها إلى أقصاها، فيجب على كل مسيحيّ أن يُجَنِّد كلَّ طاقاته على إتمام
العملية الجليلة المتمثلة في تنصير الهند، ولايجوز التقصير في ذلك».
وجَنَّد
في هذا السبيل جميعَ إمكانيات الدولة، واستقدمَ كثيراً من القساوسة والرهبان،
والبعثات التبشيرية، بالإضافة إلى الموجودين في الهند من ذي قبل.
ضيفنا الكبير!
هنا دبّ اليأس إلى المسلمين فيما يتعلق ببقاء الإسلام والمسلمين في هذه البلاد،
وأَقَضَّ هذا الموقفُ الخطيرُ مضاجعَ العلماء ورجالِ الدين الغياري، وجعلوا يفكرون
في كل طريق يمكن به الحفاظُ على الكيان الإسلامي في هذه البلاد، فَاهْتَدَوا
بتوفيق الله إلى أنّ أسلم وأنفع الطرق إلى ذلك هو نشر شبكة المدارس والكتاتيب
الإسلامية الأهلية في أرجاء البلاد كلها.
وكان
على رأس هؤلاء العلماء والمشايخ العالم الهندي الفريد الإمام محمد قاسم النانوتوي
(المتوفى 1297هـ/1880م) ورفقاؤه على درب العقيدة والدين: الشيخ الحاج السيد محمد
عابد الديوبندي (المتوفى 1331هـ/1912م) وغيره –
من الذين كانوا مثالاً في الزهد والتقى، والإخلاص والاحتساب، والعبادة والإنابة،
والذكر والتلاوة، والاِطِّراح على عتبة الرحمن في خلوات الليالي الهادئة، فبدأ
سلسلةَ هذه المدارس، التي كانت ثُكُنَات إسلاميةً وقلاعاً دينيةً، بتأسيس مدرسة في
فناء مسجد أثري في 15/محرم 1283هـ (الخامس عشر من محرم سنة ألف ومئتين وثلاث
وثمانين من الهجرة) باسم «المدرسة الإسلاميّة العربية» بمدينة ديوبند، التي عُرِفَت
في العالم كله باسم «الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند» وتلتها مدارس وكتاتيب
وجامعات، أقامها الإمام النانوتوي بيديه أو أقامها تلاميذُه أو تلاميذُ تلاميذه أو
المتخرجون في «الجامعة الأم دارالعلوم/ ديوبند»، حتى تجاوز عددُها الآن في شبه
القارة الهندية آلافاً وفي غير شبه القارة الهندية آلافاً أخرى.
ضيفنا العظيم!
لقد سَجَّلَ العالمُ بالنسبة لهذه الجامعة المعروفة باسمها البسيط: باسم
«دارالعلوم/ ديوبند» شعبيَّتَها المدهشةَ الساحرةَ التي لم تُكْتَب لحدّ الآن
لأيِّ دارِ علمٍ في هذه القارة أو في غيرها، وكسبت من الثقة مالم تكسبه أيةُ حركة
قامت في هذه الديار لإنهاض المسلمين، حتى صارت علامةً بارزةً لشخصية المسلمين
الدينيـة وهُوِيَّتِهم الإسـلاميـة في هـذه البلاد، ومنها تفجرت ينابيع الثقافة
الإسلامية والإصلاح والدعوة، ومنها انتشرت شبكةُ المدارس والجامعات الدينية، وباسمها
تَسَمَّت، فجُلُّها أَسْمَتْ نفسَها «دارالعلوم» وإليها تنتسب، وبها تفتخر، وعلى
فتاواها وتوجيهاتها الدينية والاجتماعية وحتى السياسيّة يعتمد الشعبُ المسلم،
ومهما استنار بغيرها من المؤسسات، فإنه لايرتاح مالم يستفتِ «دارالعلوم/ديوبند».
وقد
لمس ذلك كلَّه علامةُ العالم الإسلامي في عصره الشيخ «رشيد رضا المصري» صاحب مجلة
«المنار» (محمد رشيد بن علي رضا 1282-1354هـ = 1865-1935م) لدى زيارته للجامعة،
فسَجَّل عنها انطباعاتٍ رائعةً للغاية نبعت من قلبه، قال فيها فيما قال: «ما
قرت عيني بشيء في الهند بمثل ما قرّت برؤية مدرسة ديوبند، وإني رأيتُ في مدرسة
ديوبند التي تلقب بـ«أزهرالهند» نهضةً دينيةً وعلميةً جديدةً أرجو أن يكون لها نفع
عظيم».
ولمس
ذلك أيضاً الأستاذ محمد بن إبراهيم سرسيق مُمَثِّل جريدة «المدينة» اليومية
السعودية؛ إذ كتب بعددها الصادر يومَ السبت 19/جُمَـادَى الأولى 1400هـ (التـاسـع
عشـر من جُمَادَى الأولى سنةَ ألف وأربع مئة من الهجرة النبوية) في تقريره الضافي
عن الاحتفال المئوي الذي عقدته الجامعةُ سنة 1400هـ/ 1980م (سنة ألف وأربع مئة من
الهجرة الموافقة لعام ألف وتسع مئة وثمانين من الميلاد).
«...
إن ما رأيتُه من احتفاء الناس بهذه الجامعة، قد أثلج صدري حقًّا؛ فمن الصعب أن
يوجد هذا التعاطفُ بين الناس ومؤسساتهم العلمية بهذه الدرجة من الحبّ والتلاحم
والذوبان الروحي والتعلق القلبي.
«والتعاطفُ هو الذي ساعدني أن أرى مشهدًا ما
شهدتُه قطُّ إلاّ في الحج الأكبر في عرفات الله ...».
ضيفنا المُبَجَّل!
إن الجامعة بفضل إخلاص مؤسسيها وبُنَاتها نجحت في تخريج علماء أكفاء كانت الأمة
تحتاج إليها، فخَرَّجَتْ نوابع في فن الحديث والتفسير والفقه، وعلوم الشريعة،
ورجالاً مطلوبين لدحض الأباطيل والبدع والخرافات، وأبطالاً في مجالات الكتابة
والتأليف والتدريس، والدعوة والتبليغ، والصحافة والسياسة، والوعظ والخطابة، واللغة
والأدب. وظلت في هذه القارة رمزًا شامخاً وعنواناً ماثلاً لقوة الإسلام وشوكة
الدين وعزّ المسلمين، وانتصار الحق في هذه الديار التي تموج بالديانات. وبعضُ
أبنائها احتلوا مكانةً عالميةً وسمعةً دوليّةً في الإكثار من التأليف حتى بلغ عدد
مؤلفاتهم نحو ألف كتاب في مختلف الموضوعات الإسلامية كالشيخ العلامة أشرف علي
التهانوي (المتوفى 1362هـ/1943م)، وبعضُ أبنائها كان لهم القِدْح المُعَلَّى في
النضال ضدّالاستعمار البريطاني، وبفضل جهودهم تحررت الهند من الاستعمار، مثل الشيخ
محمود حسن الديوبندي المعروف بـ«شيخ الهند» (المتوفى 1339هـ/1920م) وتلميذه العالم
المخلص الشيخ السيد حسين أحمد المدني المعروف بـ«شيخ الإسلام» (المتوفى
1377هـ/1957م) وبعضُ أبنائها كانت لهم سمعة عالمية في فن الحديث مثل العلامة محمد
أنور شاه الكشميري (المتوفى 1352هـ/ 1933م)، وبعض أبنائها كان لهم فضل كبير في نشر
العلوم الدينية في ديار الحرمين، مثل العالم الصالح الشيخ السيد أحمد الفيض آبادي
(المتوفى 1358هـ/ 1939م) الذي كان قد أسس «مدرسة العلوم الشرعية» بجوار المسجد
النبوي، التي خرجت كثيراً من القضاة والمفتين والأدباء كان على رأسهم الأديب
والبحاثة الكبير الشيخ عبد القدوس الأنصاري (المتوفى 1403هـ/1983م) مؤسس مجلة
«المنهل» أكبر وأعرق مجلة أدبية سعودية لاتزال تصدر بمدينة «جدة» والشيخ السيد
حبيب محمود (المتوفى 1423هـ/2002م) رئيس الأوقاف بالمدينة المنورة، والأديب الصحفي
الكبير الأستاذ عثمان عبد القادر حافظ (المتوفى 1413هـ/ 1993م) والشيخ عبد الله
ابن الشيخ المحمود السوقي إمام ومدرس المسجد النبوي سابقاً، والشيخ محمد المختار
السكنتي إمام وخطيب مسجد قباء سابقاً، والشيخ القاضي محمد التهامي الوداعة الذي
تولى قضاء «رابغ» و«القنفذة»، وغيرهم.
ضيفنا الكبير!
إن الجامعة إنما نجحت هذا النجاحَ الكبيرَ في تحقيق أهدافها من تخريج علماء ودعاة
مؤهلين قاموا بخدمة علوم الكتاب والسنة وصيانة الإسلام والمسلمين في هذه الديار،
لأنها زَهِدَت في الدعاية والحديث عن نفسها كلَّ الزهد، وعملت في صمت، وتركت
أعمالَها لتتحدث بنفسها عنها، على عكس المعاهد التي تأسست فيما بعد، حيث إنها
تعتمد على الدعاية والإعلان، وتعمل قليلاً أو لاتعمل ولا قليلاً ولكنها تتكلم
كثيرًا. والجامعةُ تربي أبناءها على العمل والزهد في القول، فلا تجدون مدرسةً أو
جامعةً في شبه القارة الهندية إلاّ وفيها متخرج من هذه الجامعة، منصرف إلى التدريس
والدعوة وأعمال الدين في صمت. وصدق إمام وخطيب المسجد الحرام سابقاً فضيلة الشيخ
«محمد بن عبد الله السبيل» عندما قال لدى زيارته للجامعة: «زرتُ شبه القارة الهندية
وزرت العالم كله فوجدتُ دارالعلوم/ ديوبند في كل مكان».
ومازالت الجامعة متمسكةً بخصيصتها هذه،
منقطعةً إلى مهمتها في نشر علوم الكتاب والسنة، وتخريج علماء مؤهلين هم حاجةُ
الأمة وأملُ الأجيال، والقيامِ بالدعوة والإصلاحِ والتوجيهِ، وتأسيسِ كتاتيب
ومدارس وجامعات تكفل الحفاظَ على الدين وصيانة المسلمين من الضياع بين ديانات
ودعوات وحركات هدامة.
فضيلة
الضيف المحترم!
إن
علماء ديوبند يأخذون بالاعتدال والتوازن والوسطية في جميع شؤون الدين؛ ولذلك
يتعرضون للمعارضة من قِبَل أصحاب كل فكرة متطرفة من الذين ينسبون أنفسهم إلى
المسلمين؛ فعلماءُ ديوبند ليسوا جماعةً جديدةً شقّت طريقاً فكريّاً أو عمليّاً
يختلف عن مذهب أهل السنة والجماعة، كما يوهم أصحابُ الأفكار المتطرفة. إن علماء
ديوبند يلتزمون بالمسار الوسط في العمل بالدين، فلا يتسارعون إلى تكفير أبناء
الإسلام أو تبديعهم أو تفسيقهم مالم يقم دليلٌ صريح على كفر أحد أو ابتداعه أو
فسقه.
وهناك
طوائف إسلامية تنسب إلى علماء ومشايخ ديوبند معتقداتٍ باطلةً، من الاستعانة
بالموتى والقبور، فتصفهم بـ«قبوريين» وهم منها بُرَآءُ، واللهُ العليمُ الخبيرُ
الذي يعلم السرَّ وأخفى يحكم بينهم يوم القيامة. والحقُّ أنهم يزورون القبور عملاً
بما روى مسلم في صحيحه: «قد نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها» (صحيح مسلم، رقم
الحديث: 1623) أما الاستعانة بالموتى والقبور فهم يعتقدون بأنها شرك، لايجوز
ممارستُه.
إنهم
يتمسكون بعقيدة التوحيد –
التي هي أساسُ الدين والإيمان –
ويعضّون عليها بالنواجذ، وهم يعتقدون ويعملون بالحديث الذي رواه الترمذي عن ابن
عباس رضي الله عنهما «قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: يا
غلام! إني أُعَلِّمك كلمات: اِحفظ اللهَ يحفظك، اِحفظِ اللهَ تجده تجاهَك، إذا
سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستَعِنْ بالله. واعلم أن الأمة لواجتمعت على
أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك
بشيء، لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (جامع
الترمذي، رقم الحديث: 2516 وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ).
نعم،
إن علماءَ ديوبند يقولون بالتقليد للأئمة ذوي المذاهب، لكل من لم يبلغ رتبةَ
الاجتهاد ممن لم يتضلع من علوم الكتاب والسنة والشريعة، وذلك صيانةً للدين من
التلاعب وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتخرّص المتخرصين.
وإنهم
يحترمون كل الاحترام العلماءَ والمشايخَ الذين سبقونا بالإيمان، وبذلوا جهودًا
مضنيةً ومساعي مشكورةً في خدمة الإسلام والدعوة إليه، بشكل لايُخِلُّ بالتوحيد ولا
يشوبه الشرك. ولعدم مغالاة علماء ديوبند في احترام العلماء والمشايخ، وكونهم
مُتَمَسِّكين بعقيدة التوحيد، وإنكارهم للبدع والخرافات، يسميهم بعضُ الطوائف
المنسوبة إلى الإسلام «وهابيين» نسبةً إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب النجدي
رحمه الله.
وأما فيما يتعلق بالفقه فهم يعملون بالمذهب
الحنفي – مذهب عامة المسلمين في شبه القارة الهندية – ولكنهم يحترمون جميع المذاهب الفقهية احترامَهم لمذهبهم،
ويحبون جميع الأئمة والسلف الصالح حبَّهم لإمامهم أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه
الله.
ضيفنا العظيم!
لقد أطلنا عليكم كثيراً لحد السآمة والملل، فمعذرةً إليكم، مكررين شكرنا وتقديرنا
لكم على هذه الزيارة الكريمة للجامعة، التي سيُسَجِّلُها تاريخ الجامعة وتأريخ
الإسلام في الهند. وحقًّا لقد تجشمتم مشاق السفر، وخضتم هذا الزحام الهائل في
رحلتكم إلى هاهنا؛ فجزاكم الله خيراً وجعل ذلك في حسناتكم. وبالمناسبة نود أن
نُحَمِّلكم إبلاغَ مشاعر الشكر الجزيل والامتنان العميق خادمَ الحرمين الشريفين
الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله. راجين التكرم منكم بتكرار هذه
الزيارة في المستقبل، معترفين بالعجز عن التعبير عما يجش في قلوبنا من عواطف
المحبة والتقدير، والاحترام والتوقير، نحو شخصكم الكريم، وبالتقصير في الحفاوة
اللائقة بعظم مكانكم وسمو شأنكم، أطال الله بقاءكم ذخرًا للإسلام والمسلمين،
وخادماً للدين والدعوة.
والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته .
المخلص
أبو
القاسم النعماني
رئيس الجامعة الإسلامية
دارالعلوم/ديوبند
ديوبند ، يوبي ، الهند
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ
= أبريل - مايو 2012م ، العدد : 5 - 6 ، السنة : 36